إيمان وأحمد وهدي والبقية يجب ألا تأتي

سجل أسود من التاريخ الإجرامي لقتلة البراءة، طاف في مخيلتي، وأنا أتابع دموع الطفلة الفلسطينية هدي، وشريط مقيت عرضته علي ذاكرتي بسرعة، به صرخات الطفل الذي فجر الانتفاضة احمد الدرة وهو بين أحضان والده والطفلة إيمان حجو التي اغتيلت غدرا في حضن أمها، والطفلة سارة التي اغتيلت في مجازر مخيمات نابلس.
شريط مروع به ملامح بريئة اغتيلت في مهدها، وصرخات ألم لا يمكن أن تنتزع من الذاكرة البشرية، ودموع لا تجرؤ يد علي الاقتراب من لهيبها لتمسحها، وحمامات دم راح ضحيتها العشرات من الأطفال دون ذنب واحد اقترفوه، سوي أنهم حملوا رغم عنهم ميراثا بغيضا وثقيلا من الكراهية والاغتصاب والعنف والأيديولوجيات العقيم.
أليس من الموجع أن أمسك قلمي منذ أيام لأشارك الطفلة العراقية إيمان لحظات وداعها الأخيرة والمروعة لأفراد أسرتها ثم أعود لأكتب مرة أخري وفي المكان نفسه عن هدي الطفلة الفلسطينية ذات الأعوام العشرة والحيدة الباقية من أفراد أسرتها تماما كما حدث مع إيمان العراقية التي كانت في مثل عمرها والتي خرجت مبللة بماء البحر لتجد أفراد أسرتها جميعهم قتلي يلفهم الصمت والدم؟
أي منطق يمكن أن يفسر حجم بشاعة المأساة التي عبرت عنها دموع هدي، فأبكت الملايين حول العالم الذين تابعوا صرخاتها وهي تقلب جثث أفراد أسرتها علي شاطئ بحر غزة، تقلب جثة الأب والأم وأطفال خمسة منهم طفل رضيع في عامه الثاني، لم يفطم بعد من حليب أمه؟ ما الذي يمكن أن يمسح من الذاكرة دموع طفلة لم تتمكن من إدراك أن والدتها قد رحلت فظلت تبكي مطالبة بحضنها حتي بعد أن أخذت إلي المستشفي، وحاول الجميع إفهامها أن ماما لن تعود أبدا أي مستقبل يمكن تصوره عندما يتم اغتيال أسرة لم يكن لها ذنب سوي أنها حاولت الهرب من حر الصيف، وضيق حياة المخيم والحصار الاقتصادي والسياسي، وبحث أفرادها عن لحظات رطبة مبللة بماء البحر وكأن الاحتلال الإسرائيلي البغيض ينكر علي تلك الأسرة حقها الإنساني في الحصول علي قسط من الراحة أو السعادة البسيطة جدا.
إننا بالفعل أمام حالة فريدة من جرائم الحرب البشعة التي أصبحت ترتكب بدم بارد يوميا ضد الأطفال والنساء والشيوخ، فالمجزرة التي قامت بها قوات المارينز الأمريكية ضد أسرة إيمان العراقية، والمجزرة التي قامت بها القوات الإسرائيلية ضد أسرة هدي الفلسطينية، تحمل بين طياتها جرائم حرب لا يمكن للضمير البشري تحملها، وتستلزم تحقيقا دوليا فوريا حول الوضع المخزي الذي يعامل به الأطفال العراقيون والفلسطينيون علي يد قوات الاحتلال المختلفة في تعارض مع أية اتفاقيات دولية، أو حتي التزامات أخلاقية بديهية يمكن أن تمنع من ارتكاب تلك الجرائم ضد أطفال لم يخبروا بعد معني الموت والدمار.
لا أعتقد أن أحدا بإمكانه تقديم إجابات شافية تفسر الدوافع وراء المجزرة البشعة التي استهدفت أسرة أبو غالية، الرجل الفلسطيني البسيط الذي اغتيل مع أبنائه، ضحية لحظة غدر لا يمكن نسيانها وشحت الأراضي الفسطينية بالسواد وأعادت للأذهان ذكريات مريرة لا يمكن تجاهلها، أعادت صور ضحايا صابرا وشاتيلا، ومجازر مخيم جنين ونابلس ومخاوف من تدمير أي أمل بالمضي نحو سلام حقيقي في المنطقة.
فسرعان ما أتت ردود من كتائب عز الدين القسام الجناح العسكري لحماس، تعلن فيه إلغاءها الهدنة التي التزمت بها مع إسرائيل، طوال خمسة عشر شهرا ردا علي بحر الدم الجديد والتصعيد الإسرائيلي المحموم الذي لم يشهده قطاع غزة منذ الانسحاب الإسرائيلي في 13سبتمبر الماضي.
حمام الدم علي شاطئ السودانية في غزة والذي راح ضحيته أربعة عشر فلسطينيا، سبعة منهم هم كل أفراد أسرة أبو غالية يسجل نقطة تحول جديدة في قلوب وصفوف الفلسطينيين الذين أضيف إلي قائمة أيتامهم أيتام جدد، نقطة قد تدفعهم إلي إعادة تقييم شامل لما حدث لهم ومعهم، خلال التطورات الداخلية الأخيرة فالتصعيد الإسرائيلي الجديد من شأنه أن يدفع القوي السياسية الفلسطينية إلي إعادة النظر في مجمل التعامل مع الوضع الفلسطيني وخاصة مسالة الحوار الوطني والاستفتاء الشعبي وربما يدعو الفصائل الفلسطينية المتخاصمة، أن توحد جهودها لمواجهة تلك التصعيدات الإسرائيلية الوحشية الجديدة، فربما تمكنت تلك الفصائل في لحظة توحد وهَمِّ مشترك أن تكثف جهودها الخارجية لتدخل دولي عاجل يمكنه أن يجنب المنطقة المزيد من ويلات العودة مجددا إلي دوامة العنف وسفك الدماء، وخلط الأوراق، والعودة بالقضية الفلسطينية إلي نقطة الصفر، إن التصعيد الإسرائيلي الأخير يأتي في مرحلة خطيرة جدا ودقيقة وحرجة، خاصة فيما يتعلق بالوضع الداخلي الفلسطيني في الوقت الذي يبدو فيه المجتمع الدولي غير مكترث لما يجري في هذه المنطقة.

