مقالات الأهرام العربى

الراحلون العرب

فاجأنا، وفجعنا عام 2005 برحيل عديد من الرموز، والشخصيات العربية المهمة، وهي التي لعبت، خلال العقود الماضية دورا، لا يمكن إغفاله في تأسيس هوية الوطن العربي وإعطائه مظهره الحضاري الحالي، وشعرنا وكأنه كان مقدرا علينا أن نفقد أحباءنا واحدا تلو الآخر، وهم الذين حرصوا علي منحنا أملا في غد عربي مشرق وشاء القدرأن نخسر هؤلاء الذين دافعوا، حتي الرمق الأخير، عن حقوقنا وكرامتنا ومطالبنا .

جاءت أولي محطات خسارة تلك الرموز مع اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري في الخامس عشر من فبراير ومع اغتياله دخلنا في متاهة من الاغتيالات في لبنان، لم نعد ندري خلالها مَنْ قتل مَنْ، أو لأي سبب قُتِلَ من قُتِلْ.

ومن نتائج هذا الاغتيال انسحاب سوريا من لبنان ثم تداعيات تقرير ميليس الذي وضع سوريا ولبنان في دائرة الخطر، وأصبح الجميع يتهم الجميع دون أن تبدو في الأفق أي بادرة أمل بوجود حلول قريبة لتلك الأزمة، علي الرغم من الجهود العربية المخلصة التي تبذلها مصر والسعودية لحل الخلافات الدائرة بين الجانبين .

مع اغتيال الحريري فقدنا رجل السياسة والاقتصاد في لبنان، وانتهت قصة صعود رجل بدأ حياته كعامل يقطف البرتقال والتفاح إلي واحد من بين أكثر رجال العالم ثراء، ليصبح رئيسا لحكومة لبنان، وخلال كل تلك المراحل المختلفة في حياته أسهم الحريري في جهود إعادة اعمار لبنان بعد أن حطمتها نيران حرب أهلية قاسية، وأسهم في تحقيق مشاركة كل الأطراف المتنازعة في مؤتمر الحوار الوطني في جينيف عام 1983، وكذلك في المؤتمر الثاني الذي عقد في لوزان بسويسرا في العام ذاته.

و قام بجهود مختلفة للوساطة بين دمشق، والكثير من الشخصيات السياسية اللبنانية خلال العقد الأخير من الحرب الأهلية اللبنانية، كما لعب دورا بارزا في التوسط بين الرئيس اللبناني الأسبق أمين الجميل والسوريين .

واعتقدنا أن هذه العملية سوف تتوقف، لكن عجلة الموت استمرت تحصد حياة الشرفاء في لبنان، وشهد هذا العام الذي بدأ بزلزال اغتيال الحريري سلسلة متواصلة من الاغتيالات، فكان اغتيال الكاتب الصحفي سمير قصير في يونيو، وفي نفس الشهر اغتيل الأمين العام السابق للحزب الشيوعي اللبناني جورج حاوي ثم تلاه اغتيال النائب والصحفي جبران تويني في ديسمبر من هذا العام المؤلم.

وكان تويني المعروف بمعارضته القوية لسوريا قد لقي حتفه في انفجار سيارة ملغومة ببيروت وقتل في الانفجار ثلاثة آخرون وأصيب نحو 32 شخصا، ولم تكد السودان يعد نفسه لمرحلة جديدة ينعم بها الشعب السوداني بالاستقرار والسلام الذي كانت تتوق إليه منذ إعلان استقلاله في يناير 1956 ، فإذا به ينعي جون جارانج عدوه السابق وشريكه الجديد في عملية السلام، فكانت صدمة لجميع السودانيين مع تجدد مخاوفهم علي وحدة ومستقبل السودان .

كان جارانج قد اعتبر اتفاق السلام مع الحكومة السودانية بمثابة فرصة تاريخية لا تعادلها فرصة في تاريخ السودان، وشعر بأن هذه الفرصة قد جاءت لخلق مناخ من شأنه أن يخلق فرص الوصول إلي حلول سلمية، فقد كان يعلن دوما “إننا نقاتل ليس من أجل فصل الجنوب عن الشمال، ولكن من أجل سودان جديد”.

و لكن القدر لم يمهله ليهنأ بما حققه، فلم يمر شهر واحد علي إعلان تنصيب جارانج نائبا لرئيس الجمهورية، إلا وأعلن رسميا في الخرطوم في الأول من أغسطس 2005 عن وفاة جارانج، بعد سقوط طائرة الرئاسة الأوغندية التي كانت تقله وستة من مرافقيه وطاقم الطائرة في طريق عودته، من رحلة غير رسمية للرئيس الأوغندي موسيفيني .

و في الأول من أغسطس أيضا فجعنا برحيل الملك فهد بن عبد العزيز أحد مهندسي التحول الهائل في المملكة العربية السعودية، الذي حولها من مملكة صحراوية إلي دولة معاصرة، صناعيا وتجاريا، وهو الرجل الذي شهدت فترة حكمه صعود دور المملكة علي الصعيدين العربي والدولي، وعمل، علي الرغم من مواجهته مصاعب اقتصادية إثر تدهور أسعار النفط، علي التصدي لهزات كبري ألمت بالمنطقة العربية، منها قيام الثورة الإيرانية، وما حملته معها من تهديدات لأمن المنطقة وأيضا غزو العراق للكويت عام 1990 ، الذي وقف منه موقفا حاسما ولعب دورا لا يمكن إغفاله خلال حرب الخليج الثانية، واتخذ موقفا صلبا في تحرير الكويت ثم لا يمكن أن ينسي دوره الهائل في إبرام اتفاق الطائف عام 1989.

وعلي كل هذا نذكر له، يرحمه الله، أنه كان رجلا تنويريا انبثقت في عهده الجامعات ودور الرعاية الصحية، ناهينا عما يشهده أي مسلم من إنجازات

هائلة قدمها لحجاج بيت الله، من توسيع الحرمين فاستحق بجدارة   لقب »خادم الحرمين الشريفين«

وبشكل عام كانت له إنجازات عديدة ستظل بصمة لا تمحي علي صفحات التاريخ العربي، وبفقدانه فقدت الأمة العربية أبرز المدافعين عنها.

و في 11 نوفمبر كانت وفاة المخرج السوري العالمي مصطفي العقاد متأثرا بإصابته في تفجيرات عمان التي هزت ببشاعتها الضمير العربي والعالمي، وهو الرجل الذي حرص دوما علي إدانة الإرهاب من خلال دفاعه الإسلام الحضارة والعقيدة والتاريخ، فحزننا جميعا علي رحيل رجل عربي حالم مثل العقاد، توج حياته بلوحتين سينمائيتين تحملان صورة مشرقة ومشرفة للحضارة الإسلامية، ونضال الشعب العربي من خلال إنتاجه لفيلمي »الرسالة وعمر المختار« ونذر نفسه في سبيل إعداد فيلم عن صلاح الدين الأيوبي، ولكن أعداء النور شاءوا ألا يكمل العقاد مسيرته، فخطفوه قبل إكمال حلمه.

إنها رسالة عزاء أخيرة، أقدمها مع نهاية هذا العام لنا جميعا، مع أمل بأن يأتي العام الجديد بمن في إمكانهم مواصلة الأدوار التي مهد لها هؤلاء الراحلون العظام .

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى