مقالات الأهرام اليومى

حصاد الحوار

شهدت الأشهر الثلاثة الماضية تجربة حوار غير مسبوقة في الحياة السياسية المصرية المعاصرة‏,‏ أثمرت تعديل أربع وثلاثين مادة من الدستور‏..‏ ومهما يكن أمر اتفاق المعارضة مع معظمها‏,‏ واختلافهم مع القليل منها‏,‏ فسوف يحسم المصريون أمر هذا الاختلاف في صناديق الاستفتاء‏.‏ فلقد غرست تجربة الحوار في البنية السياسية للمجتمع كثيرا من قيم الاتفاق والاختلاف‏,‏ وأعادت طرح قضية الوطن ومصالحه العليا‏,‏ بمشاركة جميع الأطياف السياسية‏.‏

والحقيقة التي تفرض نفسها ـ بعد أشهر الحوار الطويل حول الدستور ـ هي أن مصر اليوم لم تعد كما كانت بالأمس‏,‏ حيث تعرضت البنية السياسية لنقلة نوعية‏,‏ وتعرضت الثقافة السياسية لهزة استفاقت منها مختلف القوي علي عالم من الجدل والحوار‏,‏ الذي كان غائبا‏,‏ وهو الحوار اللازم للوصول إلي تطور ديمقراطي حقيقي‏.‏

وكانت يد الرئيس حسني مبارك هي التي امتدت إلي أعماق التربة السياسية المصرية‏,‏ لتزيل عنها طبقات من الركود تراكمت عبر سنوات طويلة‏,‏ فأصبحت اليوم مهيأة لغرس جديد‏,‏ سوف نجد ثماره في قادم الأيام‏.‏ فالنظرة إلي المستقبل ضرورة‏,‏ لفهم سياق التغيير الذي تشهده مصر اليوم‏.‏

لقد علا ضجيج الاختلاف بشأن مادتين‏,‏ علي توافق عام علي اثنين وثلاثين مادة أخري تحمل في ثناياها تغييرات هائلة في بنية النظام السياسي‏,‏ وحاول البعض اختزال الحوار الطويل في الاختلاف حول هاتين المادتين‏,‏ ومثلما هو الحال في أي حوار ديمقراطي‏,‏ كان من الممكن قبول ضجيج الاختلاف واحترام رأي الأقلية والأغلبية معا‏,‏ لولا أن الأقلية ـ التي اعترضت علي التعديلات ـ حاولت ممارسة التسلط‏,‏ ونقل خلاف الرأي إلي دائرة العصيان والتحريض عليه‏,‏ في محاولة لسرقة الفرحة بالإنجاز الذي تحقق‏.‏ فالاعتراضات التي أثارتها المعارضة علي المادتين‏88‏ و‏179‏ بنيت جميعها علي الشكوك في آليات عمل وقوانين لم تصدر بعد‏.‏

إن المعارضين للمادة‏88‏ يعلمون أن الإشراف القضائي ليس بالضمانة الوحيدة لتحقيق انتخابات نزيهة‏,‏ وأن مصر لن تظل بدعة بين دول العالم حين تعمل بشعار قاض لكل صندوق‏,‏ وأن النزاهة والشرف والأمانة ليست مقصورة في مصر علي القضاة وحدهم دون سائر المصريين‏.‏ ويعلم المعارضون‏,‏ قبل غيرهم أن بعضهم جاء إلي البرلمان بأساليب تفتقد إلي قواعد النزاهة‏,‏ برغم الإشراف القضائي‏.‏

فالتلاعب بأصوات الناخبين يبدأ بعيدا عن صناديق الانتخاب‏,‏ ويجد له مرتعا خصبا حين تسود العصبيات‏,‏ ويصل الوعي إلي درجاته الدنيا مع انتشار الفقر‏,‏ الذي يجبر البعض علي قبول الرشاوي الانتخابية‏.‏ هذا إلي جانب خضوع العقول لشعارات زائفة‏,‏ وغياب الوجود الحقيقي للأحزاب السياسية‏.‏ وعلي الذين يعترضون اليوم علي توسيع مشاركة فئات المجتمع في الإشراف علي الانتخابات‏,‏ أن يقدموا بدائل حقيقية وعملية تعصم أصوات الناخبين من التلاعب بها ومن تزييف إرادتهم‏,‏ وكذلك الأمر بالنسبة لخطر الإرهاب‏,‏ حيث كان أولي بهم أن يبحثوا مع الأغلبية عن سبل تحصين المجتمع ضد العدو الأكبر للجميع‏.‏

وتؤكد التعديلات الدستورية أيضا مبدأ المواطنة‏,‏ وتشير إلي آليات جديدة لابد أن يتم استحداثها لتعميق الشعور بالانتماء والمساواة تحت راية الوطن‏.‏ فلقد جاءت هذه التعديلات لتنقي حياتنا السياسية من آفة الخلط الملعون بين الدين والسياسة بكل الأخطار الكامنة في هذه التوليفة‏,‏ التي بلغت حدود التهديد‏.‏ وجاءت أيضا بتوازن غير مسبوق بين السلطات‏,‏ وتفعيل قدرات ظلت مهملة سنوات طويلة‏.‏

كما جاءت بإطار لحماية أمن المجتمع من الإرهاب‏..‏ وهكذا نتجاوز بهذه التعديلات فجوة كانت وقائمة بين نصوص دستورية‏,‏ وواقع تغير كثيرا‏ إننا أنجزنا الكثير بعد حوار مجهد وطويل‏,‏ ولن يسرق المغامرون أو المزايدون أو الخائفون منا فرحة الإنجاز باعتراضات ومسيرات خائبة‏.‏

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى