حصاد الحوار

والحقيقة التي تفرض نفسها ـ بعد أشهر الحوار الطويل حول الدستور ـ هي أن مصر اليوم لم تعد كما كانت بالأمس, حيث تعرضت البنية السياسية لنقلة نوعية, وتعرضت الثقافة السياسية لهزة استفاقت منها مختلف القوي علي عالم من الجدل والحوار, الذي كان غائبا, وهو الحوار اللازم للوصول إلي تطور ديمقراطي حقيقي.
وكانت يد الرئيس حسني مبارك هي التي امتدت إلي أعماق التربة السياسية المصرية, لتزيل عنها طبقات من الركود تراكمت عبر سنوات طويلة, فأصبحت اليوم مهيأة لغرس جديد, سوف نجد ثماره في قادم الأيام. فالنظرة إلي المستقبل ضرورة, لفهم سياق التغيير الذي تشهده مصر اليوم.
لقد علا ضجيج الاختلاف بشأن مادتين, علي توافق عام علي اثنين وثلاثين مادة أخري تحمل في ثناياها تغييرات هائلة في بنية النظام السياسي, وحاول البعض اختزال الحوار الطويل في الاختلاف حول هاتين المادتين, ومثلما هو الحال في أي حوار ديمقراطي, كان من الممكن قبول ضجيج الاختلاف واحترام رأي الأقلية والأغلبية معا, لولا أن الأقلية ـ التي اعترضت علي التعديلات ـ حاولت ممارسة التسلط, ونقل خلاف الرأي إلي دائرة العصيان والتحريض عليه, في محاولة لسرقة الفرحة بالإنجاز الذي تحقق. فالاعتراضات التي أثارتها المعارضة علي المادتين88 و179 بنيت جميعها علي الشكوك في آليات عمل وقوانين لم تصدر بعد.
إن المعارضين للمادة88 يعلمون أن الإشراف القضائي ليس بالضمانة الوحيدة لتحقيق انتخابات نزيهة, وأن مصر لن تظل بدعة بين دول العالم حين تعمل بشعار قاض لكل صندوق, وأن النزاهة والشرف والأمانة ليست مقصورة في مصر علي القضاة وحدهم دون سائر المصريين. ويعلم المعارضون, قبل غيرهم أن بعضهم جاء إلي البرلمان بأساليب تفتقد إلي قواعد النزاهة, برغم الإشراف القضائي.
فالتلاعب بأصوات الناخبين يبدأ بعيدا عن صناديق الانتخاب, ويجد له مرتعا خصبا حين تسود العصبيات, ويصل الوعي إلي درجاته الدنيا مع انتشار الفقر, الذي يجبر البعض علي قبول الرشاوي الانتخابية. هذا إلي جانب خضوع العقول لشعارات زائفة, وغياب الوجود الحقيقي للأحزاب السياسية. وعلي الذين يعترضون اليوم علي توسيع مشاركة فئات المجتمع في الإشراف علي الانتخابات, أن يقدموا بدائل حقيقية وعملية تعصم أصوات الناخبين من التلاعب بها ومن تزييف إرادتهم, وكذلك الأمر بالنسبة لخطر الإرهاب, حيث كان أولي بهم أن يبحثوا مع الأغلبية عن سبل تحصين المجتمع ضد العدو الأكبر للجميع.
وتؤكد التعديلات الدستورية أيضا مبدأ المواطنة, وتشير إلي آليات جديدة لابد أن يتم استحداثها لتعميق الشعور بالانتماء والمساواة تحت راية الوطن. فلقد جاءت هذه التعديلات لتنقي حياتنا السياسية من آفة الخلط الملعون بين الدين والسياسة بكل الأخطار الكامنة في هذه التوليفة, التي بلغت حدود التهديد. وجاءت أيضا بتوازن غير مسبوق بين السلطات, وتفعيل قدرات ظلت مهملة سنوات طويلة.
كما جاءت بإطار لحماية أمن المجتمع من الإرهاب.. وهكذا نتجاوز بهذه التعديلات فجوة كانت وقائمة بين نصوص دستورية, وواقع تغير كثيرا إننا أنجزنا الكثير بعد حوار مجهد وطويل, ولن يسرق المغامرون أو المزايدون أو الخائفون منا فرحة الإنجاز باعتراضات ومسيرات خائبة.
