مقالات الأهرام اليومى

الصحفيون‏..‏ وانتخابات إنقاذ المهنة

لايختلف اثنان علي أن الصحافة المصرية تمر هذه الأيام بمرحلة تحتوي علي أكثر التحديات أهمية في تاريخها منذ أن عرفت مصر الصحافة المطبوعة قبل ما يقل قليلا عن قرنين من الزمان‏.‏ صحيح أن تاريخ الصحافة مليء بالأزمات والنكبات والنجاحات‏,‏ ولكن قل أن تجمعت مثل هذه السحب التي نراها اليوم في سماء الصحافة المصرية حتي باتت تحدد واقعها وترسم ملامح مستقبلها‏.‏ فهناك ضغوط من الداخل‏,‏ وأخري من الخارج وثالثة من داخل المهنة‏,‏ ورابعة من القوي المنافسة‏,‏ وخامسة من جمهور تغيرت خصائصه عن الجمهور الذي عرفناه زمنا طويلا‏.‏

إن الصحافة المصرية تواجه تحديات ظرف تاريخي لم تكن مستعدة له تماما‏.‏فمجتمعنا الذي يمر بتحولات ديمقراطية يمارس ضغطا شديدا عليها لكي تقوم بدور يصل بين حرية التعبير والمسئولية الاجتماعية‏,‏ وبيئة إعلامية تغيرت ملامحها حتي أصبحت تهدد بوسائلها الجديدة مستقبل الصحافة المطبوعة‏,‏ ومهنية أصابها الإعلام التعبوي بالركود فأصبحت تمارس الحرية بخطاب تعبوي آخر‏,‏ وهياكل مؤسسية أضعف من أن توفر الحد الأدني للتمويل اللازم لصحافة جادة ونمو مطرد‏,‏ يواكب التطورات العالمية في صناعة الإعلام‏.‏

وفي أي مكان من العالم فإن الصحافة لاتكون مصدرا لإصلاح المجتمع إذا عجزت عن إصلاح شئونها‏.‏وعبر تاريخ الصحافة الذي يمتد لأكثر من قرنين ونصف القرن خاض الصحفيون معارك طويلة ومريرة في مواجهة القوي الكثيرة المتربصة بحرية جمع المعلومات وتكوين الآراء والتعبير عنهما‏.‏ ولم يستقر هذا الحق في الديمقراطيات الغربية إلا منذ ما يزيد قليلا علي مائة عام‏.‏ ومع ذلك مازالت الصحف في تلك الدول الديمقراطية تتعرض لمشكلات وأزمات‏.‏ ولكن تلك الأزمات حين تنشأ تجد في مواجهتها صناعة ذات بنية مؤسسية قادرة علي الصمود وتصحيح الأخطاء التي تأتي من داخل الصحافة ذاتها‏.‏ أما نحن في مصر فلم تفعل الصحافة المصرية شيئا لاستكمال أدواتها لمواجهة ما يعترضها من تحديات‏,‏ فاستنفدت جهدها في ملاسنات لم تتوقف بين الصحفيين أنفسهم وتطاول وتجاوز من بعض صحفها في مخالفة صريحة للأعراف الصحفية المستقرة منذ زمن دون أن تجد من الجماعة الصحفية رادعا يحفظ للصحافة أمام الرأي العام كرامتها ومكانتها‏.‏

وفي ظل هذه التحديات تجري غدا انتخابات نقابة الصحفيين وسط آمال عريضة بأن تنتهي إلي مجلس ينهض بمهمة الإنقاذ لمهنة تكاد تغادر تاريخا طويلا من النضال الوطني والمهنية الرفيعة والأعراف المستقرة والمسئولية واحترام الرأي العام والتأثير العميق في الوجدان المصري‏.‏

وحين يختار الصحفيون مجلسا يتولي مهمة الإنقاذ فإنهم يختارون مجلسا لاتقف مسئوليته عند حدود مصالح الصحفيين فقط‏,‏ بل تتعداها إلي مسئولية وطنية باعتبار أن الصحافة مؤسسة لها دورها الهائل في تطور المجتمع وتقدمه‏,‏ وتمثل عونا كبيرا في دعم قدراته علي مواجهة مشكلاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية‏.‏ فالصحافة بمقدورها أن تفعل الكثير من أجل استقرار المجتمع والحفاظ علي أمنه وحقوق أفراده‏,‏ وبمقدورها أيضا أن تنشر اليأس والإحباط والسخط وتؤجج الصراعات وتضع المجتمع علي حافة الانهيار‏.‏

وحوار ما قبل الانتخابات بين الصحفيين يبعث شيئا من الأمل في مستوي وعي الصحفيين بالمشكلات الرئيسية التي تعترض طريقهم‏,‏ في ضوء تجربة السنوات الماضية‏.‏ فليس هناك صحفيون بلا صحافة‏,‏ والصحافة اليوم صناعة لها مقوماتها التي لاتنشأ بدونها ولاتنمو بغيرها‏.‏ وبرغم تلك الأصوات التي تحاول جر المجتمع الصحفي نحو قضايا لن تقدم ولن تؤخر في مهمة إنقاذ المهنة المطلوبة اليوم‏,‏ فإن الإجماع الصحفي الآن أكثر اقترابا من الأسباب دون النتائج‏,‏ وأكثر اهتماما بأعراضها دون أمراضها‏,‏ ومالم يتم علاج الأمراض نفسها فسوف تعود الأعراض للظهور مرة بعد أخري‏.‏

ولقد سيطر حوار الحرية والعقوبات السالبة لها كثيرا علي حوارات ما قبل الانتخابات‏.‏وقد تركز علي التخلص من العقوبات أيا كان شكلها أو مداها‏,‏ غير أن هذا الطرح يختزل القضية بشكل يصيبها بالاختلال‏.‏

……………………………………………………….‏

فليست هناك حرية بلا مهنية ولم يحصل الصحفيون‏,‏ عبر تاريخ حرية الصحافة‏,‏ علي هذا الحق إلا عبر مهنية رفيعة ارتفعت بسقف الحرية وعظمت من تأثيرها‏,‏ وجعلتها عقيدة من عقائد المجتمع‏.‏ منذ سنوات ليست بالقليلة والصحافة المصرية تنعم بمستوي من الحرية‏,‏ لم يتوافر لها من قبل في تاريخها‏,‏ ولكن هذه الحرية في غيبة المهنية اللازمة لم تنفع الصحافة‏,‏ بل أدت بعض الممارسات إلي أن أصبحت الحرية وبالا علي الصحافة‏,‏ ومصدرا لاتهامها وفرصة للمتربصين بها‏.‏ فقد فهم البعض حرية الصحافة علي طريقته الخاصة فاعتدي علي حق المجتمع حين خلط الخبر بالرأي‏,‏ وأضاف إليهما ماشاء من الشائعات والنميمة واعتمد علي حكايات المقاهي في تبصير الرأي العام بما يجري حوله‏,‏ وهكذا اختلط الرأي بالابتزاز والامتهان‏,‏ واقتحام خصوصية الآخرين واتهامهم بما لم يرتكبوه من أفعال‏.‏

ولاشك أن الأحكام التي صدرت ضد بعض الصحفيين أخيرا تمثل إدانة لمستوي المهنية السائد‏.‏ فليس هناك عمل بلا ضوابط في أي مجال وأي مجتمع‏,‏ ويلزم لكل من يمارس عملا أن يعي ضوابطه جيدا وأن يلتزم بها‏.‏ وفي كل مؤسسات الصحافة في العالم مستشارون قانونيون يراجعون ما ينشر‏,‏ حتي لاتقع الصحيفة تحت طائلة العقاب‏.‏ وفي مصر لم تصدر أحكام الحبس إلا بعد إلغاء الكثير من المواد القانونية‏,‏ التي كانت تجيز الحبس من قبل بموجب القانون رقم‏147‏ لسنة‏2006.‏ وتفسير تلك المفارقة هو أنه كلما تراجعت المهنية زادت احتمالات ارتكاب أخطاء قانونية لاعلاقة لها بحرية الصحافة‏.‏ وإذا استمر المستوي المهني الراهن علي حاله‏,‏ فإن فرص التخلص مما بقي من عقوبات سوف تتراجع باعتبار أن بقاء تلك العقوبات هو مما يحمي المجتمع واستقراره من ممارسات لاتتسم بالمسئولية الكافية‏.‏

وفي اعتقادي أن قضية المهنية هي أكثر القضايا أهمية علي قائمة أعمال المجلس المنتخب لنقابة الصحفيين‏.‏ فالمسئولية الأولي للنقابة هي النهوض بالمهنة بما يحقق مصالح أعضائها الذين يمارسونها‏.‏ وإذا تمكن المجلس من وضع برنامج فاعل لتطوير مهنية العمل الصحفي‏,‏ فإنه يكون قد وضع أقدام الصحافة علي بداية طريق الحل لمشكلات أخري كثيرة‏.‏ فالمهنية شرط لازم للحرية‏,‏ وهي مدخل ملائم جدا لإيجاد حل لمشكلة الأجور المتدنية‏,‏ وضرورة للحفاظ أيضا علي الصحافة المطبوعة في مواجهة وسائل الإعلام الجديدة التي تستقطع في المتوسط العام نحو‏10%‏ سنويا من جمهور وسائل الإعلام التقليدية‏.‏

……………………………………………………….‏

ويتطلب القيام بتلك المهمة الحيوية مجلسا يتسم أعضاؤه بالمهنية الرفيعة والفهم الجيد لكيفية الوصول بمهارات وقدرات الصحفيين إلي المستوي المطلوب‏.‏ والأمر علي هذا النحو يحتاج إلي النظر في تجارب كثيرة في مختلف مناطق العالم‏,‏ حققت نجاحات منظورة‏.‏ فنحن لاننتخب قيادة لحزب أو تيار سياسي‏,‏ وإنما نختار مجلسا يقود نقابة مهنية في المرحلة المقبلة‏.‏ أما الذين يريدون ممارسة السياسة فإن قنواتها مفتوحة في أماكن أخري‏,‏ وتبقي مهمة النقابة الأساسية إنقاذ مهنة الصحافة مما أصابها‏,‏ ولابد أن تكون تلك الحقيقة واضحة للزملاء في اختيار من يمثلهم‏.‏

وكذلك فإن قضية الخدمات التي تقدمها النقابة ينبغي أن تحتل موقعها الصحيح في الحوار وفي برنامج عمل النقابة في المرحلة المقبلة‏,‏ ومنها قضية أجور الصحفيين علي سبيل المثال‏,‏ والتي شغلت حيزا كبيرا من التفكير والحوار بين المرشحين‏,‏ إذ يجب أن تخضع لرؤية أوسع من مجرد البحث عن تمويل لبدل جديد يحصل عليه الصحفيون‏.‏ فهناك من يهاجم الدولة ويطالب بإبعادها عن الصحافة‏,‏ وقد راح يطالبها في الوقت نفسه بتمويل زيادة رواتب الصحفيين مثلما فعلت مع المعلمين‏.‏ وهنا نقول إن الصحافة في العالم صناعة مربحة‏,‏ وليست أبدا صناعة خاسرة‏,‏ ولكن الهياكل الاقتصادية للمؤسسات الصحفية تعاني ضعفا شديدا‏,‏ فالقانون لدينا يشترط رأسمالا قدره‏250‏ ألف جنيه لإصدار صحيفة وهو مبلغ ينبغي أن يكون راتبا سنويا لصحفي متوسط العمر في الصحافة‏.‏ ومن هنا فإن هذه الكيانات الاقتصادية الضعيفة العاجزة عن تمويل نشاط صحيفة بدائية أوجدت الكثير من المشكلات‏,‏ بدءا من ممارسة الحرية إلي المهنية إلي أجور الصحفيين وانتهاء بمستوي المحتوي الصحفي نفسه‏.‏

‏……………………………………………………….‏

إن العالم من حولنا يتجه للتكتلات الصحفية القوية القادرة علي المنافسة‏,‏ ونحن نتجه نحو تجزيء القدرات الضعيفة أصلا‏,‏ فالتكتلات القوية في العالم تتشكل بآليات السوق‏,‏ ونحن نفكك قدراتنا الضعيفة بالقانون‏,‏ ونعلم جميعا أن السوق المصرية لايمكن أن تستوعب هذا العدد الذي يصدر من الصحف‏,‏ ولايمكن أن توفر لها مصدرا للتمويل الكافي‏.‏ وإنني لست بذلك أصادر حق إصدار الصحف‏,‏ ولكن يجب أن يكون هناك شرط جوهري هو أن تخضع تلك الصحف لآلية السوق الحقيقية‏,‏ فتبقي الصحف القادرة‏,‏ وتختفي تلك التي لاتستطيع المنافسة‏.‏ وهذا يتطلب من النقابة قبل غيرها أن تنظر في مصادر التمويل‏,‏ وما إذا كانت مستمدة من سوق تنافسية‏,‏ أم من مصادر أخري‏.‏ فنحن لانريد لصحفنا أن تصبح مثل القنوات الفضائية‏..‏ خسائر مستمرة وإرسال مستمر أيضا ومصادر تمويل خفية غير معلومة‏,‏ ولعل الخطوة الأخيرة التي أقدم عليها الجهاز المركزي للمحاسبات لتدقيق ميزانيات الصحف المستقلة هي ـ برغم تأخرها ـ في مصلحة الصحافة حتي نتمكن من فرز القدرات الفعلية وتوفير كل الظروف الملائمة لعمل آلية السوق في مجال الصحافة‏.‏

أيضا يتطلب إنقاذ المهنة النظر بجدية في مسألة ميثاق الشرف الصحفي‏,‏ وأخلاقيات المهنة‏,‏ وهي من مسائل التنظيم الذاتي الطوعي من جانب الصحفيين أنفسهم‏.‏ ولو أن أخلاقيات المهنة قد حظيت منا بالاهتمام من قبل لأمكننا تجنب الكثير من المشكلات التي نعاني منها اليوم‏.‏ ولابد أن يرتضي الصحفيون من مجلس النقابة المنتخب إجراءات حاسمة ضد كل ممارسة تلحق الضرر بسمعة الصحافة وشرف الصحفيين‏,‏ وتنال من مصداقيتهم لدي قرائهم‏.‏ إنها قائمة طويلة من القضايا المهمة لإنقاذ الصحافة تنتظر المجلس الذي يقرر الصحفيون أنفسهم هويته غدا في انتخابات نقابتهم‏.‏

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى