موازنة لعبور الأزمات

تستحوذ نسبة العلاوة الاجتماعية القادمة علي الذهن العام وتحتل الأولوية في التفكير باعتبار أن الموظفين في الدولة مازالوا يشكلون نسبة كبيرة, وأن دخولهم مازالت منخفضة في إشارة إلي أن برامج الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي لم تحقق أهدافها بعد, وسوف نشعر جميعا بنجاحاتها عندما نتخلص من دولة الموظفين, لنصبح دولة المنتجين.
وعندما يقل الاهتمام العام بالعلاوة الاجتماعية ويزداد الوعي بهدف رفع الحد الأدني للأجور ولمستوي المعيشة بشكل عام, وعندما يصبح عدد موظفي الحكومة محدودا وبكفاءة أكبر ويكون هناك موظفون بأجور كبيرة تتناسب مع أعمالهم وكفاءتهم, عندما يحدث ذلك فإنه يمكن إعادة الثقة في الحكومة لدي رجل الشارع والمواطنين, وبالتالي إذا كثف المجتمع اهتمامه بنسبة العلاوة, سواء كانت5% كما اقترح مجلس الشعب أو حتي إذا تم تغييرها إلي نسبة أكبر, فهذا التفكير مازال يعكس عدم القدرة علي استشراف واقع جديد لاقتصادنا.
فموازنة العام المقبل2009 ـ2010 هي موازنة عبور الأزمات المتلاحقة التي نتعرض لها من تداعيات الأزمة المالية والاقتصادية العالمية, والتي قد يتأثر بها اقتصادنا, وسيظهر ذلك في التوقعات التي تشير إلي انخفاض معدل النمو الاقتصادي, وهي الميزة التي تمتع بها اقتصادنا خلال السنوات الأربع الماضية.
وأعتقد أننا نستطيع قياس درجة الوعي العام للمجتمع ولمؤسساتنا ولنخبتنا إذا ركزنا علي هدف الحفاظ علي معدل النمو وزيادة فرص الاقتصاد للاستثمار وما يتيحه ذلك من زيادة أعداد العاملين والحد من البطالة مع دعوة المواطنين خاصة الموظفين إلي ترشيد الاستهلاك الترفي وخاصة في الموبايل الذي يبتلع دخولهم وتوجيه الأموال إلي مجالات التنمية خاصة البشرية صحيا وتعليميا وثقافيا لزيادة مهارات العاملين وكفاءتهم لمواجهة المتغيرات في الأسواق وتطورات النمو الاقتصادي لما بعد الأزمة الراهنة والاستعداد لواقع مختلف.
ونحن نشيد بالاتجاهات التي أبرزتها الموازنة للحرص علي مواجهة الأزمة الراهنة, فبالرغم من انخفاض الإيرادات بنسبة20% فإن الموازنة لم تتجه إلي الانكماش, وحققت معادلة صعبة باستمرار التوسع, ولكن ليس علي حساب الأجيال القادمة, بالرغم من زيادة عجز الموازنة إلي94.4 مليار جنيه بنسبة أكبر من40% وهو ما جعله يصل إلي نحو9% من الناتج المحلي.
ولأن زيادة العجز تعني جزئيا تأميم الاقتصاد المصري, وحيث إن تمويل العجز يتم عبر الاقتراض من القروض المحلية والأجنبية, فإن هذا يعني عدم قدرة الاقتصاد علي تمويل الاستثمارات الجديدة, أي ضياع فرصة الاقتصاد في النمو وخلق الوظائف أمام الأجيال الجديدة بما ينعكس علي مستقبل الوطن كله, لأن الأموال تتجه لسد العجز أو اقتراض الحكومة, وبالتالي تضيع الفرصة أمام مشروع جديد للمستقبل لزيادة الإنتاج والتوظيف أي أننا نحقق غرض أن نعيش اليوم ونموت غدا.
ولعل أهم ما حققته الموازنة الجديدة من إيجابيات يتمثل في زيادة المصروفات العامة بقطاعي التعليم والصحة لتمويل المرحلة الثانية من بدل المعلم ومكافآت هيئة التدريس بالجامعات والمراكز البحثية والمرحلة الثانية لكادر الأطباء وهيئات التمريض واستشارات قطاع الصحة بشكل عام بما يعني سيطرة التفكير علي حماية المستقبل والتنمية البشرية والإنسانية بشكل عام.
ولم يكن متخذ القرار الاقتصادي يستطيع, إعداد هذه الموازنة المتوازنة والقادرة علي عبور الأزمة, ووضع الاقتصاد في الحد الأدني من التأثر بتداعيات الأزمة المالية الاقتصادية منذ تفجرها في سبتمبر2008 إلا إذا نظرنا لما تحقق من سياسات الإصلاح الاقتصادي التي تبنتها الحكومة منذ عام2004 والتي كان من نتيجتها نجاح المرحلة الأولي من برنامج إصلاح القطاع المالي وتطوير الجهاز المصرفي وإخضاعه لقواعد الرقابة المحكمة بما يضمن استقراره وسيولته والتعامل مع القروض المتعثرة وغير المنتظمة, ورفع كفاءة أسواق التمويل العقاري والرقابة علي المؤسسات المالية غير المصرفية, والتي كان من نتيجتها تدرج النمو من4% في عام2004/2003 إلي7.2% عام2008/2007 ثم تأثره بالأزمة الراهنة لينخفض إلي4%(2009/2008).
******
كما تنامي دور القطاع الخاص خلال السنوات الماضية بما ساعد علي خفض معدل البطالة من11% عام2005/2004 لينخفض إلي8.85% عام(2008/2007) غير أن معدلات البطالة قد بدأت في الارتفاع خلال الربعين الأول والثاني من عام2009/2008 لتصل إلي8.6 و8.8% علي التوالي نتيجة التباطؤ الذي شهده الاقتصاد المصري خلال هذه الفترة في ظل الأزمة المالية العالمية, كما انخفض معدل التضخم الذي ارتفعت معدلاته خلال عام2008 نتيجة ارتفاع أسعار المواد الخام والطاقات والمنتجات الغذائية العالمية من23.6% خلال أغسطس2008 إلي11,6% خلال مارس2009 ومن المتوقع أن يواصل الانخفاض خلال الشهور المقبلة.
وتجدر الإشارة إلي أن السياسات التي اتبعتها الحكومة خلال الفترة الماضية في الأزمة, خاصة تخصيص15 مليار جنيه لمدة6 أشهر تنتهي في30 يونيو عام2009 للإنفاق علي مشروعات البنية الأساسية, قد ساعدت علي زيادات الطلب المحلي لتعويض الانخفاض في الصادرات والاستثمار غير المباشر المترتب علي حالة الكساد التي تسود العالم.
وما نحتاجه الآن هو أن نشدد علي ضرورة استمرار مساندة القطاعات الإنتاجية المختلفة لتحفيز الطلب المحلي بهدف استعادة معدلات النمو التي كانت سائدة قبل الأزمة وتوفير فرص عمل متزايدة علي المستوي القومي مع إعطاء الأولوية لبرامج الإنفاق الاجتماعي وبرامج مكافحة الفقر والقري الأكثر احتياجا مع إعداد برامج خاصة لتعويض النقص المتوقع في استثمارات القطاع الخاص حتي يمكن تحقيق معدلات النمو والتشغيل المطلوبة, وهي من المتوقع أن تنخفض إلي نحو11.5% من الناتج المحلي. بعد أن وصلت إلي16% خلال العام الماضي, وسد الفجوة يحتاج إلي مشروعات عامة مع تحفيز القطاع الخاص للمشاركة في مشروعات جديدة محددة للبنية الأساسية مثل الطرق والمواني والنقل والصحة وغيرها,
وهو ما بدأته الحكومة آخيرا وعليها الاستمرار فيه مع إقامة التمويل لهذه المشروعات من الجهاز المصرفي وإعداد خطة أخري لجذب الاستثمارات من الدول العربية والآسيوية وصناديق الاستثمار ولا يسعنا إلا أن نكرر ما سبق أن قلناه وهو أن الأزمة لها وجهان الأول يتعلق بالآثار السلبية التي نلاحظها جميعا, والآخر هو الذي يدعونا للمطالبة بالاستمرار قدما في مسيرة الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي التي بدأناها منذ سنوات. وقد أثبتت التجربة أنها قللت من الآثار السلبية للأزمة علي الاقتصاد المصري, كما أنها حمت القطاع المالي المصري من تداعياتها, فاستكمال الإجراءات سيعطي الفرصة للاقتصاد المصري من الاستفادة من تعافي الاقتصاد العالمي واستعادة المعدلات المرتفعة لنمو الاستثمار والصادرات والتشغيل.
osaraya@ahram.org.eg
