من شرق العوينات.. إلي رؤية عصرية للزراعة والري!

فجرت المناقشة التي جرت منذ أيام في مجلس الشعب حول الزراعة في شرق العوينات قضية الزراعة والمياه والإنتاج الغذائي والحيواني في بلدنا, وهي القضية الأكثر أهمية, والتي يجب أن تستحوذ علي التفكير العام وتحتل مكانة وأولوية ليس لدي الحكومة أو البرلمان فقط, ولكن أيضا لدي الشارع المصري بكل أطيافه مهما تكن درجة وعيهم, فليس هناك ما هو أهم بالنسبة للمصريين اليوم من إنتاج غذائهم وتطوير إنتاجهم في هذا المجال ليصبح عصريا, فلم نعد قادرين علي تحمل إهانة أن المصريين ـ ومصر هي أم الزراعة القديمة ـ غير قادرين علي إنتاج ما يكفيهم من الغذاء.
ويجب أن نعترف بأن الزراعة في بلادنا تخلفت في هذا المجال حديثا, بالرغم من المبادرات الكثيرة لتطويرها خلال السنوات الأخيرة, ولكنها ليست كافية في ظل ثورة عالمية وتكنولوجية يشهدها الإنتاج الزراعي والغذائي, مما جعل كل شيء ممكنا وبكمية وفيرة وتكلفة مناسبة للاستهلاك العالمي, خاصة في مجال الزراعات الصحراوية. ومازالت مشروعاتنا القومية تحبو, ومنها شرق العوينات, المشروع الذي يستهدف زراعة ما يقرب من نصف مليون فدان في منطقة نائية وصعبة, تقع في الزمام الغربي للوادي الجديد, وقد زرع أقل من النصف قليلا بمشاركة الحكومة والقوات المسلحة والعديد من المستثمرين, وهو مشروع يشكل بالنسبة لنا أملا ـ مثل غيره من المبادرات المماثلة في توشكي وسيناء والوادي الجديد ـ لتغيير وجه الحياة في مصر والخروج من الوادي الضيق وخلخلة الكثافة السكانية في وادي النيل الضيق ودلتاه المكتظة بالسكان وتلبية احتياجات الناس الغذائية والمعيشية.
والأرض في شرق العوينات تعتمد علي خزان جوفي تقول التقارير إنه يكفي لمدة300 سنة من مياه قادمة من بحر تشاد, وتلك المنطقة يصفها المتخصصون بأنها من أفضل مناطق الجمهورية للمراعي, للإنتاج الحيواني ودباغة الجلود وتصديرها.. وحتي تنجح وتلبي احتياجاتنا علي أسس اقتصادية سليمة, فإنها يجب أن تعتمد علي التصنيع الزراعي وليس الزراعة فقط, لكي تكتسب المنتجات قيمة مضافة وقدرة أعلي علي المنافسة في الأسواق, لأن تكلفة النقل في هذه المنطقة تجعل المنتجات غير اقتصادية, وتؤدي علي المديين المتوسط والبعيد إلي خسائر فادحة للمنتجين, مع تدفق وتزايد إنتاج عالمي تقل تكلفته كثيرا بالنسبة لارتفاع تكلفة النقل.
إذن فالتصنيع الزراعي هو الحل لشرق العوينات بتعليب كل منتجاتها الغذائية وأن تكون منتجاتها قادرة علي التصدير إلي الأسواق الكبيرة مصنعة ومعبأة, فالتصنيع الزراعي والغذائي والحيواني في الموقع لمنتجات العوينات يزيد القيمة ويجعل هذه المنطقة قادرة علي جذب السكان وإعطاء عائد اقتصادي مناسب. فالمناطق النائية لها خصائصها وظروفها, ويجب أن يكون هدفنا خلق حياة متكاملة فيها, لكي ينتقل المواطنون للعيش بها مع مراعاة تكلفة نقل المنتجات حتي تصل إلي الأسواق بسعر مناسب واقتصادي في الوقت نفسه.
……………………………………………………
وقد فجرت مناقشة هذه القضية بمجلس الشعب أهمية الدراسة والتفكير بتمعن وبرؤية أكثر عمقا لكيفية استخدامات المياه في مصر, وأن تكون هناك إدارة جديدة واقتصادية للمياه لاستخدامها بشكل اقتصادي وعملي وفي المكان والوقت المناسب بحيث تحقق أكبر عائد اقتصادي للوطن, بعد تحقيق الاكتفاء الذاتي من الحبوب والزيوت. فالمياه أصبحت هي الحاكمة للإنتاج وليست نوعية الأراضي طينية كانت أو صحراوية, فتطور تكنولوجيا الزراعة جعلها ممكنة في أي أرض مهما تكن نوعيتها بل حتي في علب مغلقة وصوبات بل وفوق أسطح العمارات أيضا. وإذا اعتبرنا أن المياه هي العنصر الحاكم للإنتاج فيجب أن نقدر إنتاجنا الزراعي والحيواني بما نملكه من مياه وليس بالأراضي كما يحدث الآن, وبالتالي فإن الإدارة الاقتصادية للمياه تهييء لنا تحقيق الأهداف التي نسعي إليها.
وقد حان الوقت للنظرة الكلية الاستراتيجية إلي كل مناطق الزراعة والإنتاج الحيواني في مصر, لإعادة استخدام كل مواردنا المائية بشكل أفضل وأكثر اقتصادية لمصلحة كل المواطنين في مصر, فإدارة المياه تستلزم نظرة جديدة أكثر عمقا للاستخدام, حيث إن الدلتا التي تستهلك40% من إيراد النيل وتروي أراضيها بالغمر وبلا حساب أو رقابة اقتصادية أو متابعة سليمة للمياه المهدرة تأثرت كل أراضيها بارتفاع منسوب المياه الجوفية, وأضيرت أراضيها بالاستخدام الخاطيء والكثيف والعشوائي للمياه.
وأصبح علي الزراعة في مصر أن تنظر بعمق وجدية, في تغيير أساليب الري بالدلتا لتعتمد الزراعة هناك علي المياه الجوفية حتي ينخفض منسوبها وتعود لتلك الأراضي عافيتها, لمصلحة أصحابها ولمصلحة الوطن أيضا وأن تبدأ الزراعة بالاهتمام بنقل النهر والمياه العذبة عبر أنابيب ـ وليس في ترع كما يحدث الآن ـ إلي الصحراء لزراعة القمح والذرة والمحاصيل الزيتية التي تستوردها مصر بنسبة80%, مع إعادة الاهتمام بالزراعة في المناطق الساحلية وتخومها في مصر, والتي تعتمد علي مياه الأمطار والسيول وهي الأراضي الشاسعة في الصحراء الغربية والساحل الشمالي من الضبعة إلي سيوة, ففيها مخزون الغلال لمصر الفرعونية في العصر القديم وللرومان في العصور الوسطي ويجب أن يعود لمصر الحديثة..!
osaraya@ahram.org.eg
